مؤسس المدرسة السلوكية: نظرة معمقة في نظرية السلوك والاحتياجات النفسية
تعتبر المدرسة السلوكية من أبرز المدارس النفسية التي أثرت بشكل كبير في فهم الإنسان ودراسته، وقد كان لمؤسسي هذه المدرسة دور كبير في رسم معالمها وتحديد توجهاتها. وظهرت السلوكية في أوائل القرن العشرين كأحد أبرز الاتجاهات في علم النفس، وهي تعتمد على فكرة رئيسية مفادها أن السلوك البشري يمكن دراسته بشكل موضوعي من خلال مراقبة السلوكيات الظاهرة فقط، دون الحاجة إلى التعمق في الأفكار أو المشاعر الداخلية. لكن من هو مؤسس المدرسة السلوكية؟ ومن هو الشخص الذي قام بتطوير هذه النظرية التي مهدت الطريق لفهم أعمق لكيفية تطور السلوك البشري؟ هذا المقال يسلط الضوء على مؤسس المدرسة السلوكية.
جون واطسون: الأب المؤسس للمدرسة السلوكية
يعتبر جون بي. واطسون (John B. Watson) مؤسس المدرسة السلوكية وصاحب الفضل في تطويرها بشكل يمكن دراسته بشكل علمي موضوعي. وُلد واطسون في 9 يناير 1878 في ولاية كارولاينا الجنوبية بالولايات المتحدة الأمريكية، ودرس علم النفس في جامعة شيكاغو، حيث تأثر في بداياته بالأبحاث البيولوجية والفسيولوجية.
كانت رؤية واطسون لعلم النفس تختلف عن المدارس النفسية السابقة مثل المدرسة التحليلية لفرويد أو المدرسة البنيوية لويليام جيمس. فبينما كان علماء النفس في تلك المدارس يركزون على دراسة العمليات العقلية الداخلية مثل الأحاسيس والأفكار والعواطف، اعتبر واطسون أن مثل هذه الأمور لا يمكن قياسها أو ملاحظتها بطريقة علمية دقيقة. ومن هنا، قرر التركيز على السلوك الظاهر فقط باعتباره الميدان القابل للدراسة العلمية بشكل موضوعي.
أسس السلوكية: سلوك قابل للقياس والاختبار
ركز واطسون في دراسته على ثلاثة مبادئ رئيسية تعتبر ركيزة للسلوكية:
-
السلوك القابل للقياس:
اعتمد واطسون على فكرة أن السلوك البشري يمكن دراسته بشكل علمي من خلال الملاحظة والقياس الدقيق. ففي نظره، كان السلوك الظاهر هو المحور الأساسي لدراسة النفس البشرية، مع تجاهل للأفكار أو المشاعر الداخلية التي لا يمكن قياسها. -
البيئة كعامل رئيسي في تشكيل السلوك:
قدم واطسون مفهومًا رئيسيًا في السلوكية وهو أن البيئة تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل السلوك البشري. فبحسب واطسون، ليس الإنسان كائنًا ذو طبيعة فطرية ثابتة، بل هو نتاج تفاعلاته مع البيئة المحيطة به. وعليه، فإن أي سلوك يمكن أن يتم تعلمه أو تعديله بناءً على التفاعلات البيئية. -
التعلم:
كان واطسون من أوائل العلماء الذين أشاروا إلى أن السلوكيات البشرية يمكن تعلمها عبر خبرات الحياة والتفاعل مع المحيط. هذا الأمر يتجسد في فكرة “الاستجابة الشرطية”، وهي أحد أسس السلوكية التي طورها فيما بعد الباحث الروسي إيفان بافلوف.
تجربة “الطفل ألبرت” وتطبيقات السلوكية
من أبرز التجارب التي أجراها واطسون والتي لاقت جدلاً واسعًا كانت تجربته الشهيرة على الطفل “ألبرت” في عام 1920. في هذه التجربة، قام واطسون بتعريض الطفل لمجموعة من المثيرات، بما في ذلك فأر أبيض، وعمل على ربط الفأر الأبيض بصوت مزعج يؤدي إلى شعور الطفل بالخوف. الهدف من التجربة كان إثبات فكرة أن السلوك البشري يمكن تشكيله عبر التعلم الشرطي، بمعنى أن الإنسان يمكن أن يتعلم الخوف من شيء معين حتى وإن لم يكن ذلك الشيء يشكل تهديدًا في حد ذاته.
أثارت هذه التجربة العديد من الانتقادات الأخلاقية، حيث اعتُبر أن واطسون قد استغل الطفل بشكل غير أخلاقي، لكن على الرغم من ذلك، فقد شكلت هذه التجربة حجر الزاوية لفهم كيفية تأثير البيئة والتجارب السابقة في تكوين السلوك البشري.
السلوكية وتطوير علم النفس في القرن العشرين
تمكنت المدرسة السلوكية بفضل واطسون من فرض نفسها كمحور أساسي في علم النفس خلال أوائل القرن العشرين. فقد ساعدت في تجاوز بعض القضايا التي كانت تواجه علماء النفس في ذلك الوقت، مثل كيفية قياس النفس البشرية. كما ساعدت السلوكية على تحويل علم النفس إلى مجال علمي موضوعي بعيد عن الافتراضات والنظريات الغامضة.
تأثر عدد كبير من علماء النفس بما قدمه واطسون من أفكار وتطويرات، أبرزهم عالم النفس الأمريكي بورهوس فريدريك سكينر (B.F. Skinner). سكينر كان من الداعمين الكبار للسلوكية وتحديدًا لفكرة التعلم الشرطي، والتي اعتمد عليها في العديد من تجاربه على الحيوانات. وبفضل هذا التطور، ظهرت مجموعة من المفاهيم السلوكية الجديدة التي تتعلق بالتحفيز والعقاب، وكذلك الأساليب المعتمدة في تعديل السلوك.
النقد والتطورات الحديثة في السلوكية
بالرغم من النجاح الذي حققته المدرسة السلوكية في فترة معينة، إلا أن السلوكية لم تخلُ من الانتقادات. كان الانتقاد الرئيسي الذي وُجه إلى هذه المدرسة هو تجاهلها للجوانب الداخلية للإنسان مثل الأفكار والعواطف. فالسلوكية كما وصفها بعض العلماء لم تكن قادرة على شرح الكثير من الظواهر النفسية المعقدة مثل الوعي والذاكرة العاطفية.
علاوة على ذلك، لم تكن السلوكية قادرة على تفسير بعض الحالات النفسية مثل الاكتئاب أو اضطرابات الشخصية التي تتطلب دراسة أعمق للعمليات النفسية الداخلية.
لكن مع مرور الوقت، بدأت السلوكية في التحول إلى ما يُسمى بـ “السلوكية المعرفية”، وهي مزيج من السلوكية والاهتمام بالجوانب العقلية والذهنية. في هذه النظرة، تم دمج العناصر السلوكية مع مفاهيم جديدة تدور حول كيفية تأثير التفكير الداخلي على السلوك، وهو ما أسهم في إثراء النظريات النفسية بشكل عام.
خاتمة: إرث السلوكية وأثرها على علم النفس المعاصر
لا شك أن المدرسة السلوكية قد تركت تأثيرًا كبيرًا على علم النفس المعاصر، حيث ساعدت في رسم ملامح علم النفس التطبيقي وجعلت منه علمًا دقيقًا ومقاسًا. وقد مكّنت السلوكية العديد من العلماء من تطوير استراتيجيات تعليمية وعلاجية معتمدة على مبادئ التعلم الشرطي وتعديل السلوك. على الرغم من الانتقادات التي تعرضت لها، فإن إرث واطسون والسلوكية لا يزال حيًا في العديد من فروع علم النفس اليوم، سواء في العلاج السلوكي أو في تطوير أساليب التعليم الحديثة.
إن فهم السلوكية وتطبيقاتها لا يزال يعد أحد المحاور الرئيسية في دراسة تطور السلوك البشري، مما يجعل من مؤسسها، جون واطسون، أحد الأعلام البارزين في تاريخ علم النفس.
